الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قرأ الجمهور {أذهبتم} بهمزة واحدة. وقرأ الحسن. ونصر. وأبو العالية. ويعقوب. وابن كثير بهمزتين مخففتين.ومعنى الاستفهام: التقريع والتوبيخ.قال الفراء. والزجاج: العرب توبخ بالاستفهام وبغيره. فالتوبيخ كائن على القراءتين.قال الكلبي: المراد بالطيبات: اللذات. وما كانوا فيه من المعايش {واستمتعتم بِهَا} أي: بالطيبات. والمعنى: أنهم اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه. ولم يبالوا بالذنب تكذيبًا منهم لما جاءت به الرّسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي: العذاب الذي فيه ذلّ لكم. وخزي عليكم.قال مجاهد. وقتادة: الهون: الهوان بلغة قريش {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ في الأرض بِغَيْرِ الحق} أي: بسبب تكبركم عن عبادة الله. والآيمان به وتوحيده {وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} أي: تخرجون عن طاعة الله. وتعملون بمعاصيه. فجعل السبب في عذابهم أمرين: التكبر عن اتباع الحق. والعمل بمعاصي الله سبحانه وتعالى. وهذا شأن الكفرة. فإنهم قد جمعوا بينهما.وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان. فخطب. فجعل يذكر يزيد بن معاوية؛ لكي يبايع له بعد أبيه. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئًا. فقال: خذوه. فدخل بيت عائشة. فلم يقدروا عليه. فقال مروان: إن هذا أنزل فيه: {والذى قال لوالديه أُفّ لَّكُمَا} فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن إلاّ أن الله أنزل عُذري.وأخرج عبد بن حميد. والنسائي. وابن المنذر. والحاكم وصححه. وابن مردويه. عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه. قال مروان: سنة أبي بكر. وعمر. فقال عبد الرحمن: سنة هرقل. وقيصر. فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه: {والذى قال لوالديه أُفّ لَّكُمَا} الآية. فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان. والله ما هو به. ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان. ومروان في صلبه. فمروان من لعنه الله.وأخرج ابن جرير. عن ابن عباس في الآية قال: هذا ابن لأبي بكر.وأخرج نحوه أبو حاتم عن السديّ. ولا يصح هذا كما قدّمنا. اهـ.
ومن البديع قول الأحوص: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ} قال أبو السعود: أي: أي: شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان. من أفعاله تعالى. وماذا يقدّر لنا من قضاياه. وعن الحسن رضي الله عنه: ما أدري ما يصير إليه أمري. وأمركم في الدنيا. وقيل: يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة. والأظهر أن ما عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية. دون ما سيقع في الآخرة. فإن العلم بذلك من وظائف النبوة. وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين. انتهى.وهذا الأظهر يقرب من قول الحسن. وهو ما عو ل عليه ابن جرير. قال ابن كثير: بل لا يجوز غيره. كيف؟ وهو صلى الله عليه وسلم جازم بأنه صائر إلى الجنة. هو ومن اتبعه بإحسان. وأما في الدنيا. فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره. وأمر مشركي قريش. أيؤمنون. أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أم العلاء. وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم. قالت: طار لنا في السكنى. حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين. عثمان بن مظعون رضي الله عنه. فاشتكى عثمان عندنا. فمرضناه. حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه. فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: رحمة الله عليك. أبا السائب! شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هو فقد جاءه اليقين من ربه. وإني لأرجو له الخير. والله! ما أدري- وأنا رسول الله- ما يفعل بي!» قالت: فقلت: والله! لا أزكي أحدًا بعده أبدًا وأحزنني ذلك. فنمت. فرأيت لعثمان رضي الله عنه عينًا تجري. فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك عمله» فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم. وفي لفظ له: «ما أدري- وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- ما يفعل به». وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ. بدليل قولها: فأحزنني ذلك. وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعيّن بالجنة. إلا الذي نص الشارع على تعيينهم. كالعشرة. وابن سلام. والعميصاء. وبلال. وسراقة. وعبد الله بن عمرو بن حرام. والدجابر. والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة. وزيد بن حارثة. وجعفر. وابن رواحة. وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم. انتهى كلام ابن كثير.وقال المهايمي: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ} أي: فيما لويوح إليّ. والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي. ولم يكن لي أن أضم إلى الوحي كذبًا من عندي.{إِنْ أَتَّبِعُ} أي: في تقرير الأمور الغيبية: {إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: منذر عقاب الله على كفركم به. أَبَان لكم إنذاره. وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم. وسعادتكم.{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فآمن وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [10].{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} أي: القرآن منزلًا من لدنه. عليّ. لا سحرًا. ولا مفترى كما تزعمون: {وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: من الواقفين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة: {عَلَى مِثْلِهِ} أي: مثل القرآن. وهو ما في التوراة من الأحكام المصدقة للقرآن من الآيمان بالله وحده. وهو ما يتبعه. كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين} [الشعراء: 196]. وقوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18- 19]. أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى. أو على مثل شهادة القرآن. فجعل شهادته على أنه من عند الله. شهادة على مثل شهادة القرآن؛ لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله. أو المثل صلة والفاء. في قوله تعالى: {فآمن} للدلالة على أنه سارع إلى الآيمان بالقرآن. لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق: {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أي: عن الآيمان به بعد هذه الشهادة.وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} استئناف مشعر بأن كفرهم. لضلالهم المسبب عن ظلمهم. ودليل على الجواب المحذوف. مثل: أَلَسْتُمْ ظَالِمِينَ. أوفَمَنَ أَضَل ُّمِنْكُمْ. وذلك عدم الهداية مما ينبئ عن الضلال قطعًا. فيكون كقوله في الآية الآخرى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هو فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52].قال أبو السعود: ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم. فإن تركه تعالى لهدايتهم. لظلمهم.تنبيه:روي أن الشاهد هو عبد الله بن سلام. فتكون الآية مدنية مستثناة من السورة. كما ذكره الكواشي؛ لأن إسلامه كان بالمدينة. وأجيب: بأن لا حاجة للاستثناء. وأن الآية من باب الإخبار قبل الوقوع. كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} [الأعراف: 48]. ويرشحه أن: {شَهِدَ} معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلًا. فلا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها. ويكون تفسيره به بيانًا للواقع. لا على أنه مراد بخصوصه منها. هذا ما حققوه. ويقرب مما نذكره كثيرًا من المراد من سبب النزول في مثل هذا. وأنه استشهاد على ما يتناوله اللفظ الكريم.ثم أشار إلى حكاية نوع من أباطيلهم في التنزيل والمؤمنين به. فقال سبحانه: {وَقال الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمنوا لَو كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقولونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [11].{وَقال الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمنوا لَو كَانَ} أي: الآيمان. أو ما أتى به الرسول: {خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} أي: لوكان من عند الله لكنا أولى به. كسائر الخيرات من المال. والجاه.قال ابن كثير: يعنون بلالًا. وعمارًا. وصهيبًا. وخبابًا رضي الله عنهم. وأشباههم. وأضرابهم من المستضعفين. والعبيد. والإماء. وما ذاك إلّا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة. و له بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطًا فاحشًا. وأخطأوا خطًا بيّنًا. كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقولوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] أي: يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا. و لهذا قالوا: {لَو كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}. وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل. وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بدعة؛ لأنه لوكان خيرًا لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها. انتهى {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} أي: بالقرآن: {فَسَيَقولونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي: كذب قديم. كما قالوا: {أسَاطِيرُ الأولين}. قال ابن كثير: فيتنقصون القرآن وأهله. وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بطر الحق وغمط الناس».
|